لا جدال في حقيقة أن الإنسان هو سيد مخلوقات الأرض ،وانه المميز بالعقل عن سواه ،والقادر على فعل ما لا يستطيع غيره أن يفعله من الكائنات ، لأنه امتلك العقل والقدرة على التفكير ، ولو كان على غير هذا النحو من الصفات لأمسى مخلوقا كسائر المخلوقات الحيّة ،وهو إذ اكتسب صفة الإنسانية وسُمي بالإنسان فلأن الرجاحة أُلصقت بالعقل فأكسبته معاني الإنسانية بما علمته الأديان والتشريعات ومنطق الحياة ،فكانت القواعد العامة للسلوك البشري،وكانت النظم الوضعية الداعمة للرسالات التى ميّزت بين الصح والخطأ وبين الخير والشر،
وحيث أن الإنسان خُلق حرًا، وبعد مقاومته الرقَّ والإستعباد ،وبعد ان أُقفلت أسواق النخاسة التي امتلكت أجساد البشر لسنوات طوال ، نتيجة رفضٍ مطلقٍ للعقل بأن يكون مُجيَّرا أو مأجورًا لسواه ، "إذا استوتْ عنده معاني الحياة ، ومنح حامله المقدرة على التوليد "، ذلك أن العقل إما أن يكون متلقنًا وإما مُوَلِدًا مُبدعًا وإلاّ فمن هم أصحاب العقول ؟
يشدُك اختلافُ العقل في الفكر الفلسفي وإن لم تناصرجانبا ،كالخلاف بين الإمام الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة "وإبن رشد الذي رد عليه بكتاب "تهافت التهافت" أو في الفروقات بين النظام الإشتراكي والرأسمالي أو بين انواع المدارس الأدبية أوبين الكلاسيكيين والمحدِثين ، هذا الإختلاف عند الخواص يثير فضولهم وحب الإطلاع وربما التأييد للبعض بما فيه من جدلٍ منطقي ومحاولات إثبات الأفكار بالنقد والتمحيص ، لأن العقل الفعّال يقوم على إثبات الفكر بالحجة والبرهان والتعليل ،والغلبة دائما للمنطق،
ألمتأمل اليوم في الوجود الإنساني يلحظ الفروقات في الطبيعة البشرية منذ عشرة قرون حتى هذا التاريخ ،وليس صحيحا أن الحضارات تقوم على التطور التكنولوجي فحسب ، بدليل أن الحضارات التاريخية قامت على الإنسان نفسه بما قدّم لمجتمعه وللبشرية إن في فن العمارة أو في الأدب أو في الإبتكارات
ربما أن بعض ما في إنسان اليوم اختلف عما كان في انسان الأمس ببعض كينونته فتهافت إلى " الأنا " ومادية الحياة ، وقد يكون غرق في جوف بهرجتها فتحول الى سطحيتها حتى في صراعه "المتخلف أحيانا "فجيّر عقله وقلمه وموقفه إرضاءً ومراعاة ولو على حساب قناعاته ،وأي نقاش يستشري اليوم وأي جدال ، وعلى أية مسائل فكرية راقية وأيديولوجيات بنّاءة يختلفون ؟
إن اضمحلالَ بعض القيم وغيابَها وتلاشي بعض المفاهيم وهجرتها عن بعض المجتمعات
سببٌ رئيسٌ في فقدان بوصلة منطق الحياة وغايتها ،ولو تجرَّد بعض الناس من أهوائهم ونزعاتهم واستطاعوا أن يحتفظوا لأنفسهم بحريتها وامتلكوا الإرادة لكانت البداية في عودة القيم الصحية . فماذا لوعادت القيم وسيطر العقل؟