مقالات

   

الجامعة اللبنانية… حيث يلتقي القانون بالضمير

في زمن اعتاد فيه اللبناني أن يرى القانون وجهة نظر، جاء قرار رئيس الجامعة اللبنانية البروفسور بسّام بدران بإعفاء مدير الفرع الأول وآخرين في كلية الحقوق والعلوم السياسية من مهامهم ليكسر هذه القاعدة ويعيد الاعتبار إلى فكرة كادت تندثر: أن المؤسسة الأكاديمية لا يمكن أن تبقى فوق المحاسبة.

 

الخطوة لم تكن إدارية فحسب، بل كانت إشارة سياسية عميقة إلى أن منطق الدولة ما زال قادرًا على أن يفرض نفسه، ولو في مؤسسة تتعرّض منذ سنوات لمحاولات تفريغ وتشويه ممنهجة.

 

ما جرى في الفرع الأول ليس تفصيلًا عابرًا. فالمسألة تتعلق بتزوير شهادات، بعضها لطلاّب كويتيين وآخرين، ما يعني مسًّا مباشرًا بسمعة الجامعة وبثقة الخارج بها. الأخطر أن القضية وقعت في كلية الحقوق، حيث يُفترض أن يُدرَّس القانون كقيمة ومبدأ، لا كوسيلة للتحايل. وهنا، لا يمكن إلا أن نستحضر المثل الشعبي القائل: "حاميها حراميها."

 

فمن يُفترض أن يكون حارس النصّ القانوني هو من انتهك روحه، ومن يُفترض أن يُعلّم طلابه معنى العدالة هو من تجاوزها باسم النفوذ والمصلحة.

 

وهنا نقطة بالغة الأهمية: عندما يتم تعيين الأشخاص بناءً على الزبائنية (Clientelism) والطائفية (Confessionalism) وليس على الكفاءة والنزاهة، تكون النتيجة متوقعة، ومثل هذه التجاوزات تصبح ممكنة. فالله يمهل ولا يهمل والعدل سرعان ما يفرض نفسه في النهاية.

 

لكن هذه الحادثة تطرح أيضًا سؤالًا أساسيًا يتعلق بكفاءة الموظف ونزاهته: هل تكون الأسباب مرتبطة بقلة القدرة المالية، فتجعل الموظف يبيع ضميره؟ بالطبع، ليس هذا هو محور النقاش. لسنا في وارد تبرئة أي تصرف شائن أو التخفيف من شأنه، خاصة عندما يتعلق الأمر ببناء الأجيال وصناعة المستقبل. السؤال المطروح هو ضرورة البحث عن آليات تمنع تكرار هذه الأخطاء، كيف يمكن ضمان أن أي موظف في موقع حساس لا يُمكن أن يمتد إليه الرشوة أو يغش ضميره؟

 

تجارب دولية عديدة توضح كيف يتم ذلك: في سنغافورة، تُطبَّق عقوبات صارمة وسريعة لكل مسؤول يُثبت عليه تلقي رشوة، ويُدمج نظام المراقبة الإلكترونية والتدقيق المالي في جميع المراحل الإدارية؛ في المملكة المتحدة، تعتمد الجامعات على لجان مستقلة للرقابة على المناصب الحساسة، مع تقييم دوري للنزاهة والشفافية لكل موظف؛ في ألمانيا، يُجرم القانون أي تقصير إداري يؤدي إلى تسهيل فساد الموظف، ويُطبّق التدريب الأخلاقي الإلزامي لجميع العاملين في المناصب العليا.

 

هذه الإجراءات تظهر أن حماية المؤسسات الوطنية، بما فيها الجامعات، تبدأ بإرساء ثقافة النزاهة والشفافية، وليس بمجرد التساهل أو الاعتماد على حسن النوايا. تغاضي الإدارة عن مثل هذه الأمور يفتح المجال لتكرار الانتهاكات ويهدد مصداقية المؤسسة بالكامل.

 

الأهم في هذا القرار أنه كسر حاجز الخوف. ففي زمن سابق، كان من المستحيل تقريبًا اتخاذ مثل هذه الخطوات. كانت سياسة الأمر الواقع تفرض نفسها، والدويلة داخل الجامعة أقوى من الإدارة نفسها. أما اليوم، فثمّة محاولة جديّة لإعادة المعايير إلى نصابها، ولإحياء ما يمكن تسميته بـ "هيبة الدولة داخل مؤسساتها". وهنا، لا يتعلق الأمر بفرع أول أو ثانٍ، بل بمبدأ أوسع: أن لا أحد فوق القانون، وأن الجامعة اللبنانية ليست ملكًا لأحد، بل جامعة الوطن… كل الوطن، ملك لكل طالب يرى فيها مستقبله، ولكل مواطن يثق بها كرمز للعدالة والمصداقية.

 

لبنان ليس وحده من واجه هذه المعضلة: ففي مصر، شهدت جامعة القاهرة قبل أعوام تحقيقات صارمة في قضايا تزوير أبحاث جامعية لمسؤولين كبار، واتُّخذت إجراءات حازمة أعادت للجامعة مصداقيتها. وفي الأردن، لم تتردد وزارة التعليم العالي في إقالة عمداء بعد اكتشاف تسريبات لامتحانات رسمية. أما في تونس، فقد شكّل تفكيك شبكات منح شهادات وهمية عام 2020 نقطة تحوّل في مسار مكافحة الفساد الأكاديمي. هذه التجارب لم تضعف الجامعات بل أنقذتها، لأن الهيبة لا تُبنى بالتغاضي، بل بالمحاسبة.

 

كما قال إدوارد سعيد: "الجامعة ليست مكانًا للراحة، بل مساحة لقول الحقيقة مهما كانت مؤلمة".

 

وهذه الحقيقة اليوم تقول إن الجامعة اللبنانية لا يمكن أن تنهض ما لم تُنقَّ من الداخل. الإصلاح الأكاديمي لا يبدأ بالمناهج، بل بالضمير، ولا يستقيم تدريس القانون في بيئة تُفرّغ معناه من مضمونه.

 

إن ما فعله رئيس الجامعة لم يكن تحديًا لأحد بقدر ما كان دفاعًا عن الكل. هو تذكير بأن الجامعة ليست جدارًا للنفوذ بل منارةً للعدالة، وأن من يتولّى موقعًا أكاديميًا ليس صاحب امتياز بل حامل أمانة. وكما قال فرانسيس بيكون: "القوة بلا عدالة طغيان، والعدالة بلا قوة ضعف".

 

اليوم، حاولت الجامعة اللبنانية أن تكون قوية وعادلة معًا، في وقت تكاد فيه القيم تُشترى وتُباع.

 

ربما لا يُدرك البعض أن مثل هذه القرارات الصغيرة، في ظاهرها، هي التي تعيد بناء الدولة من الداخل. فحين تُستعاد القوانين في الجامعة، يُعاد الاعتبار لمفهوم الدولة بأكمله. القانون لا ينهض بالخطابات، بل بالأفعال، والعدالة لا تُحمى بالشعارات، بل بالمواقف. وفي بلد أنهكته الصفقات، يُحسب لرئيس الجامعة أنه اختار الانحياز للمؤسسة لا للأشخاص، وللقانون لا للمساومات.

 

وهكذا، تُثبت الجامعة اللبنانية مرة أخرى أنها ليست مجرّد صرح أكاديمي، بل ميدان اختبار حقيقي لقدرة الدولة على النهوض من بين الركام. فالذي يحمي القانون داخل الجامعة، إنما يُعيد الثقة بأن لبنان لا يزال قادرًا على حماية نفسه. فالعدل هو أساس الملك وقاعدة أي دولة، وعلى الجامعات أن تكون الصورة الأولى لذلك المبدأ.

 

بيروت - د. بولا أبي حنا، أستاذة جامعية

17 تشرين الأول 2025

 

المصدر: الأنباء

الأحداث القادمة
حقوق النشر UL2020. جميع الحقوق محفوظة. تصميم وتطوير Mindflares. ©