مركز المعلوماتية القانونية
صفحة الاستقبال |
للاتصال |
العلاقات الدولية |
إحفظنا |
بريد إلكتروني
ع
|En
|Fr





  وقائع المؤتمر السنوي الأول:صلاحيات رئيس الجمهورية بين النص الدستوري والممارسة السياسية

الفقرة الثانية: مداخلة د. أحلام بيضون
قراءة في النظام اللبناني بين القانون والتطبيق

إن النظام السياسي اللبناني قد حير رجال السياسة والقانون في تحديد طبيعته، إذ لم يوفق أحد بالعثور على مثيل له في معاجم القانون الدستوري أو الأنظمة السياسية المطبقة في الدول الحديثة، ولكن قبل استعراض آراء المهتمين وما ينتج في التطبيق(أولاً)، لا بد لنا من محاولة إبراز أهم مميزات النظام اللبناني حسب الدستور والقوانين المرعية الإجراء (أولاً).



أولاً : تصنيف النظام اللبناني حسب الدستور، والتباسات ذلك

ميزتان أساسيتان لا بد من التطرق إليهما من قبل الباحثين عن توصيف النظام اللبناني، وهما : خاصية الديموقراطية البرلمانية والصيغة الطائفية أو الطائفية السياسية (1)، والتباسات أو التناقضات التي ترافق ذلك على المستوى القانوني (2).



1- خاصية الديموقراطية البرلمانية الطائفية للنظام اللبناني

يمكن استخراج توصيفاً نظرياً للنظام اللبناني من خلال وثيقة الدستور الأساسية لعام 1926، والتعديلات التي طرأت عليها، وآخرها وأهمها وثيقة اتفاق الطائف لعام 1989، بالإضافة إلى ميثاق عام 1943 بناء على ذلك:

أ- النظام اللبناني ديموقراطي برلماني

لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، (مقدمة الدستور، فقرة ج)، الشعب فيها هو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية (مقدمة الدستور، فقرة د)، النظام قائم فيه على مبدأ فصل السلطات (المقدمة، فقرة ه)، وعلى مبدأي العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل (مقدمة ، فقرة ج)، ويعتمد على المبادرة الفردية والملكية الخاصة.

إلى هنا وينتهي نص مقدمة الدستور، أو القواعد العامة فيما يتعلق بتوصيف النظام في لبنان، ومنها يظهر واضحا أن النظام برلماني ديموقراطي والشعب فيه مصدر السلطات، والمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، أيضا آلية تطبيق ذلك مذكورة في الدستور، والنص واضح ولا يحتاج إلى اجتهاد بالتفسير.



إن التعديل الذي أدخل على الدستور بموجب اتفاق الطائف قد أزال الإلتباس الذي كان حاصلا على المستوى القانوني فيما يتعلق بانحراف النظام اللبناني نحو النظام الرئاسي بسبب الصلاحيات الواسعة التي كانت معطاة لرئيس الجمهورية، دون تحميله مسؤولية أعماله، كما هو مفروض في هذا النظام الأخير، بسبب غياب المؤسسات الرقابية بشكل عام. فضاع القارئون في نوع النظام اللبناني هل هو برلماني أم هو رئاسي؟ وزاد من التباس الأمر الطابع الطائفي الإقطاعي لذلك النظام.



ب- النظام اللبناني طائفي بامتياز

إن مشكلة النظام اللبناني ولدت على شاكلة الوطن نفسه، حيث جرى الضم والفرز حتى ولد لبنان الكبير مما كان يسمى بلاد الشام، طبعا ليس ذلك ميزة لبنانية خالصة فالتفصيل طال كل ما يسمى الوطن العربي وأيضا غيره من المناطق في أوروبا وآسيا وإفريقيا وفقا لما ارتآه المنتصرون في الحروب العالمية في القرن الماضي.

غير أن لبنان تميّز عن غيره من دول العالم، بنظام طائفي زرعت بذوره قبل أكثر من قرن من الزمن على ولادته تقريبا، مع ما سمي نظام القائم مقاميتين (عام 1840)، ثم المتصرفية (عام 1861)، باتفاق تركي-أوروبي.

وعند ولادته تم الإعتراف بالشعب اللبناني كمجموعة من الطوائف (م. 24 من دستور عام 1926)، ومنح نظاما يوزع مجلس النواب والمناصب والوظائف الإدارية على هذا الأساس، توج ذلك باتفاق شفهي بين رئيس وزرائه السني ورئيس جمهوريته الماروني، بما عرف بميثاق العام 1943، حيث وزعت السلطات السياسية الثلاث بين طوائفه الأكبر، رئيس جمهورية ماروني بسلطات واسعة، ورئيس وزراء سني متفاهم معه، ورئيس مجلس نواب شيعي يدير جلسات المجلس.



ولم يتم الإكتفاء بذلك فقط، بل تم إعطاء سلطة رسمية للطوائف الثلاث الكبرى وما تضم تحت أجنحتها من مذاهب، وذلك بموجب مراسيم صدرت عن المندوب الفرنسي. لقد تم تكريس نوعا من الإستقلالية للطوائف اللبنانية، وذلك بفعل مجموعة من المراسيم صدرت زمن الإنتداب، أي بين عامي 1936 و 1938، منحت بموجبها الطوائف اللبنانية صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية خاصة بكل منها، تمنح كل طائفة أو حتى كل مذهب إدارة شؤون رعاياه على مستوى الأحوال الشخصية. وقد طبقت هذه المراسيم أولاً على الطوائف المسيحية، ثم على الطوائف المسلمة عام 1955 (على السنة)، وعام 1962 (على الدروز) وعام 1965 (على الشيعة). وجاء قانون المحاكم الطائفية لعام 1962 ينظم الأحوال الشخصية للطوائف، ويحدد القانون المطبق بالنسبة لكل طائفة.

وقد ضمن الدستور اللبناني من ناحيته (م. 29) للمواطنين إحترام وضعيتهم الشخصية ومصالحهم الدينية "شرط عدم الإخلال بالنظام العام". هذه الوضعية جاءت تضاف إلى الطائفية السياسية، لتشكل معها وضعا قانونيا واقعيا لا يوجد مثيل له في العالم الحديث أو البعيد.



2- الإلتباسات والتناقضات على مستوى القانون

أدى تكريس الطائفية في الدستور والقوانين اللبنانية إلى نتائج ملتبسة وتناقضات على مستوى المبادئ العامة والقواعد التي تحكم اللبنانيين. سنبين ذلك فيما يلي:



أ- تسخير مبدأ النظام العام لمصلحة الطوائف

إن "شرط عدم الإخلال بالنظام العام" في المواد التي تتكلم عن امتيازات الطوائف، صبّ كله في صالح النظام الطائفي بل التفرقة الطائفية، لتعلق النظام العام ليس فقط بالآداب العامة بل بالأمن العام، وبما أن كلا من الآداب العامة (عادات وتقاليد الطوائف) والأمن العام (عدم الوقوع في الفتنة الطائفية) يصبان كلاهما في مصلحة عدم المس بالطوائف، من جهة احتراما لخصوصيتها، ومن جهة ثانية لعدم الوقوع في الفتنة، فقد نشأ عن ذلك تمتين الوضعية الطائفية في لبنان على صعيد التشريع والتطبيق، بما شكل منافسة وتهميشا جديا لشخصية الدولة وصلاحياتها المتعارف عليها في القانون، وجعل مبدأ عدم الإخلال بالنظام العام في خدمة الطوائف بدل أن يكون في خدمة الوطن والمواطنين.

ب- تشويه مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.(مقدمة الدستور، ه)

تم استغلال مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها ليس لخدمة النظام الديموقراطي، بل لخدمة المصالح السياسية-الطائفية، فمعلوم أن كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية قائمتان على أساس طائفي في أعلى الهرم وفي التركيبة، بحيث يتولى رئاسة الجمهورية ماروني مسيحي، ومجلس الوزراء مسلم سني، ومجلس النواب مسلم شيعي، بينما تخضع السلطة القضائية لتوازنات طائفية دقيقة على مستوى التعينات والبت في القضايا، بالإضافة إلى احتضانها لما يسمى القضاء الشرعي أو الروحي والذي يخرج تماما عن سلطة القضاء المدني والجزائي الرسمي المعروف. انعكست التوازنات الطائفية تداخلات على مستوى السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى مستوى الإدارة بشكل عام، محولة مبدأ فصل السلطات إلى حالة من الهرج والمرج عصية على الفهم.



ج- انتهاك القاعدة التي تجعل من إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية.(مقدمة الدستور، ح)

إن التركيز على إلغاء الطائفية السياسية، سواء في دستور 1926 (المادة 24 التي تؤكد على "التمثيل الطائفي في مرحلة انتقالية")، أو في وثيقة الطائف ليس سوى دليلا على طبيعة النظام الطائفية، إذ لا نلغي ما ليس موجودا، وإن كان المشرعون يؤكدون دائما على هذا الأمر، فلأنهم مدركون لمساوئ ذلك النظام ومدى ضرره بمصالح الوطن والمواطنين. لم يقتصر النص على إلغاء الطائفية السياسية في مقدمة الدستور، بل كتأكيدا على ذلك، تم تضمين متن الدستور موادا تشرح خطوات تحقيق ذلك، وهذه المواد هي المادة 22، والمادة 24 التي أستفاضت في الشرح .

د- مخالفة النص الذي يجعل من التوازنات الطائفية توازنات مرحلية

(م. 24 من الدستور، وميثاق عام 1943)

إن النصوص التي توصي بإلغاء الطائفية السياسية يجري احتجازها وانتهاكها من قبل القائمين على السلطة ، منذ 14 عشر عاما، أي منذ إقرار وثيقة الوفاق الوطني، هذا إذا لم نقل منذ 84 عاما أي منذ الصياغة الأولى لدستور عام 1926، التي ذكرت في المادة 24 المعدلة أن تمثيل الطوائف بشكل نسبي هو تدبير مؤقت ينتهي بانتهاء المرحلة الإنتقالية. كذلك بالنسبة لميثاق عام 1943 ، الذي هو عهد عرفي، لكن يبدو أن المؤقت يحمل صفة الدوام في لبنان.

إن عدم تنفيذ البنود المتعلقة بإلغاء النظام الطائفي، يجعل من المرحلة الإنتقالية مرحلة دائمة، وهذا يناقض مصلحة الوطن واستقراره، كما يمثل انتهاكا للقاعدة التي تجعل من إلغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً.



ه- التناقض مع مبدأ التمثيل البرلماني

إن النظام الطائفي يناقض نص وروح الدستور الذي يعتبر "عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه" (المادة 27 المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 17/10/1927 وبالقانون الدستوري الصادر في 21/1/1947)، والتي تم الإحتفاظ بها في وثيقة الطائف. إن الإحتفاظ بالنصوص الطائفية تجعل من النواب ممثلين لطوائفهم، وهذا ما فسح في المجال لأصوات تحتج عن أن نوابا ينتمون إلى طائفة معينة يشارك في انتخابهم مواطنون ينتمون إلى غير طوائف، لقد نسوا أو تناسوا أن النائب يمثل الأمة جمعاء كما ينص الدستور وينتخب من كافة المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الطائفي. إن تنكر السياسيون لوضع قانون انتخابي حديث قائم على قاعدة النسبية كما أوصى بذلك الدستور (م. 24)، يشكل انتهاكا صريحا لتلك النصوص ولمبدأ التمثيل البرلماني الصحيح.

و- التناقض مع مبادئ حقوق الإنسان المكرسة في الدستور

يناقض النظام الطائفي النص الذي يعتبر كل اللبنانيين سواء أمام القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم (المادة 7)، ويناقض النص الذي يكرس "لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون" (المادة 12)، إذا أن التعيينات تتم في الواقع على أساس المحاصصة وليس الكفاءة.

كما يجري انتهاك مبدأ المساواة بين المواطنين في النصوص التي تظهر حريصة على حرية المعتقد، وحرية الطوائف بالتعليم وإنشاء المدارس، (المادتان 9 و10). ورغم حرص المادتين المذكورتين على التأكيد على شرط "عدم الإخلال بالنظام العام"، فإن هذه النصوص تجعل من مبدأ المساواة بين المواطنين مبدأ غير صاف كليا، فالمساواة هي في تمتع كل مواطن بنفس الحقوق ضمن طائفته وليس ضمن الوطن. إن حق الإعتقاد هو حق شخصي، وليس حق جماعي، وبالتالي لا يجوز الإختباء وراء حرية الإعتقاد لتمرير صفقات مذهبية تميزية. كما أن مبدأ عدم الإخلال بالنظام العام هو مبدأ يتعلق بالآداب العامة، وبالأمن العام للمواطنين والوطن، فهل تكريس الطائفية ليس مهددا للأمن العام، ولمبادئ حقوق الإنسان؟ إن حرية التعليم الديني الممنوحة للطوائف قد انتجت فئات متطرفة هددت أمن المواطنين، ويصعب على الدولة حاليا التعامل معها. فأي الحقوق يجب تغليبها حقوق الإنسان أم حقوق الطوائف؟.

ز- إعطاء شخصية معنوية لرؤساء الطوائف

إن إعطاء الحق "لرؤساء الطوائف المعترف بها قانونا..." (المادة 19 المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 17/10/1927و بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990) بمراجعة المجلس الدستوري إسوة برؤساء السلطات الرسمية الثلاث، يبين مدى تكريس الطائفية في الدستور اللبناني وجعل المرجعيات الدينية على قدم المساواة مع السلطات الرسمية، ما لا تعرفه الأنظمة السياسية المطبقة في العالم، حتى تلك التي تحكمها الشريعة الإسلامية، وذلك بسبب وحدة الشريعة هناك، وتنافس المذاهب هنا أي في لبنان مما يجعل سلطة الدولة الرسمية موضع تجاذب بين تلك المذاهب المختلفة.



ر- تبني النظام الإقتصادي الحر وآثار ذلك

يكرس الدستور اللبناني النظام الاقتصادي الحر الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة (مقدمة الدستور، و ). يشمل هذا التعريف النظام المالي. قد يقول قائل ولما حشر هذا البند المتعلق بالنظام الإقتصادي هنا، والجواب أن النظام الإقتصادي اللبناني هو على شاكلة النظام السياسي، لا يمكن تصنيفه، من جهة، ولأن هذا النظام لا يقل تأثيرا في توليفة النظام السياسي عن النظام الطائفي.

فالنظام الإقتصادي اللبناني ليس نظاماً اقتصادياً حراً على النسق الذي يعرفه العالم المنظم كي لا نقول المتحضر، ونسيئ أكثر إلى أنفسنا، عندما نوصّفه بإنه نظام فوضوي يفسح في المجال أمام الفساد والجرائم الإقتصادية والمالية، متواطئا مع مراكز النفوذ، والتي غالبا ما تكون في مراكز السلطة الرسمية، مما يجعل لبنان خاضعاً لما يشبه المافيا، ويصبغ النظام السياسي اللبناني بصفة مافيوية.

(مقدمة الدستور، ي)س- الإلتباس الذي تتركه قاعدة "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"

لقد أنتجت هذه القاعدة ما تم التعارف عليه باسم "التوافقية"، التي ألبست لباساً طائفياً بطبيعة الحال، تماشيا مع النسق الكلي للنظام، وبدل أن يجري التوافق بين مختلف الفئات حول المشاريع العامة التي يستفيد منها الوطن والمواطنون، يتم استغلال القاعدة لتوافقات من قبل الزعماء السياسيين الناطقين غالبا باسم الطوائف لا باسم المواطنين، حيث تخفي تحاصصاً وتقاسماً للمصالح والمشاريع العامة من أعلى هرم السلطة، نزولا إلى توزع الوظائف والمناصب بحيث لا يستفيد منها إلا مواطنون مرضي عنهم من قبل الجهات المعنية، أو يدورون في فلكهم، مشكلين معهم دوائر مغلقة يصعب اختراقها، مضيفين في ذلك إلى النظام اللبناني صفة الإقطاع السياسي المستحكم.

ش- الدستور يلغي نفسه

هكذا بنصوص متناقضة وملتبسة يلغي الدستور اللبناني نفسه، مما يفسح في المجال لإختراقه بسهولة، في ظل نظام تغيب فيه أو تغيّب مؤسسات الرقابة، بتأثير النفوذ والصيغة الطائفية، ويتم تقاسم السلطة على أساس طائفي من جهة، ومن جهة ثانية تشارك الطوائف - من خلال المجالس الشرعية والروحية- الدولة صلاحياتها الحصرية، وتتحول السلطة الرسمية إلى سلطة محلية تتشابه مع غيرها من السلطات وتفقد هيبتها ودورها كسلطة وطنية مما يتناقض مع مقدمة الدستور(أ) التي تكرس وحدة لبنان "أرضا وشعبا ومؤسسات". وباعتماد نظام مالي واقتصادي فوضوي يتواطئ متنفذوه أو يتماهون مع السلطة السياسية، فيتحول لبنان الوطن إلى بلد تحكمه مافيا النفوذ المالي والطائفيي والسياسي، بحيث يؤدي ذلك إلى ضعف الكيان بشكل عام، وجعله عرضة للتهديدات والإعتداءات الخارجية من جهة، وللتدخلات الإقليمية والدولية الواضحة في شؤونه الداخلية. إن التدخلات الخارجية إنما تأتي لتقلص الصفة التمثيلية للسلطات الرسمية للبنان على صعيد الخارج والتي كان بالإمكان الإعتماد عليها لإيجاد نوعاً من التمايز بين السلطات الرسمية والسلطات الطائفية.


ثانياً : النظام اللبناني في التطبيق

إن ما تقدم شرحه سابقا من نصوص قانونية والتباسها وتناقضها سهل استغلالها وانتهاك جوهر الدستور على مستوى التطبيق من قبل المتنفذين وأصحاب السلطة والشأن، مما كان له أسوأ الانعكاسات على مستوى الكيان اللبناني، خالقاً نظاماً هجيناً موضع انتقاد من قبل المختصين وموضع شجب من قبل اللبنانيين (1)، بما جلبه عليهم من ويلات تتداخل فيها الأسباب والنتائج وتحوّل الدولة في نظرهم إلى عدو (2).



1- طبيعة النظام السياسي اللبناني في دفاتر المختصّين والفقهاء

أجمع الكتاب على تصنيف لبنان ضمن الجمهوريات القلقة، أو غير المستقرة، موصفا البعض نظامه بالديموقراطي الأوليغرشي مثل (ميكل هيدسون)، والأوليغارشية تعني حكم القلة، وهي عبارة عن مجموعة ضيقة تنجح في البقاء في السلطة مهما تكن المنعطفات الإيديولوجية. يظهر قانون الأوليغارشية كعملية لا بد من أن تؤدي، بالرغم من القيم الديمقراطية المعلنة، إلى نواة إدارية ثابتة تملك صلاحيات اجتماعية اقتصادية مهمة تحرص عليها مانعة ترقية الأعضاء المنتمين حديثاً. وبما أن هذه القلة هي مجموعة من الشخصيات التي وصلت إلى الحكم لكونها تمتلك الوسائل المادية الكافية، أي أنها تمتلك الثروة، فإنها ستبذل جهدها للحرص على ثروتها، والإستزادة منها عن طريق استغلال السلطة والنفوذ، ولكي تبقى في السلطة فلا بد من أن تضمن لنفسها قاعدة شعبية موالية، لذلك تعمل على اللعب على عناصر التمايز بين فئات الشعب، وطبعا في لبنان إن أكثر عناصر التمايز حضورا هي تلك القائمة على التمايز الطائفي والمذهبي، من هنا كان رفض، أو على الأقل عدم مبادرة القلة في السلطة إلى وضع حد للنظام الطائفي.



البعض الآخر يشبه النظام اللبناني بالبوليارشية (جون كلود دفنس ) والبوليارشية تعني ديموقراطية الجماعات، التي لا مكان فيها للمواطن بحد ذاته، وهذه الجماعات هي جماعات طائفية-إقطاعية- مافيوية في لبنان بطبيعة الحال ( ).



كما أن هناك من يرى في النظام اللبناني نظاما فوضوياً أو Anarchique (جان سلمون) وهو يعني بذلك غياب الدولة، ووربما هو يستنتج ذلك من غياب دور المؤسسات الرقابية، ونفوذ زعماء الطوائف وميليشوية الزعماء السياسيين.



2- أسباب ونتائج غربة النظام اللبناني عن الأنظمة السياسية المعروفة

إذ تشارك الباحثون اليأس من إمكانية إيجاد تصنيف للنظام اللبناني في المعاجم القانونية أو السياسية، كما سبق ورأينا، فإنهم اختلفوا على الأسباب لتداخلها مع النتائج:

أ- أسباب صعوبة تصنيف النظام اللبناني

عزى فريق من المحللين، صعوبة توصيف النظام اللبناني إلى تركيبة المجتمع اللبناني المؤلفة من أقليات متقاربة في العدد على مستوى أكبرها، وأيضا على مستوى أصغرها، وتصارعها على السلطة، ومنهم من رأى في ارتباط الطوائف اللبنانية بولاءات إقليمية ودولية لحماية نفسها سببا لعدم تماسك الدولة، وعدم قيام نظام واضح المعالم فيها، ومنهم من رأى أن النظام الإنتخابي المعتمد هو وراء كل الفوضى القائمة ووراء إيصال نفس الأشخاص بصورة دائمة إلى مجلس النواب، وبالتالي فإن النظام في الدولة يصاغ على قياس مصالحهم.



على كلٍ، إن كل ما قيل صحيح، ولكن أصعب ما في الأمر أن يرزح لبنان تحت دائرة مغلقة، فلا السلطة تتغير لتغير النظام، ولا النظام يتغير ليغير السلطة، ويبقى البلد محكوما من قبل مجموعة من الأقطاب الذين ينتمون إلى طوائف وملل مختلفة، ينطقون باسم جماعات، وليس باسم الوطن، ، ويسخرون الوطن والمواطنين للعبة المصالح، متواطئين مع رأس المال، ومع وسائل إعلام تخصهم، ومع المراجع الدينية التي تغطيهم ويغطونها، محولين أي أمر معيشي أو مطلبي أو سياسي إلى طائفي، مختبئين وراء مبدأ "التوافقية"، أو "صيغة العيش المشترك"، وخوف الوقوع في الفتنة، مبقين على الوطن والمواطن رهينة لمصالحهم الذاتية، حائلين بذلك دون قيام الدولة الحديثة في لبنان كما يعرفها القانون الدستوري، أي دولة المؤسسات التي تحافظ على حقوق المواطنين وتحدد صلاحيات الحكام ومسؤولياتهم، فالدولة لا تعرف فقط بحدودها وشعبها وسلطتها، بل بمؤسساتها التي ترعى النظام وتسهر على تطبيقه.

ب- النظام الطائفي وتعطيل قواعد الديموقراطية في التطبيق

سواء جرت الإنتخابات أو مدد المجلس لنفسه، فإن لا شيء يتغير فعلياً، فآلية الحكم هي ذاتها؛ وسواء بقيت الحكومة أو حلت محلها حكومة جديدة، فالأمر غير ذي أهمية، فآلة الحكم هي ذاتها؛ وسواء جيئ بحكومة اتحاد وطني، أو مثالثة أو مناصفة، أو معطلة أو مرجحة، فالأمر هو ذاته. يتفق الفرقاء على تقاسم المصالح وليس على حماية المصلحة العامة أو حماية حقوق المواطنين، فالتجاذب سيبقى سمة الحكومة، وستكون معطلة، وشؤون البلد تراوح مكانها، إما في ملفات محفوظة إلى أجل غير مسمى، أو يجري تنفيذ بعض المشاريع بتمريرها بصفقات وتحاصصات بين ذوي الشأن وبالتواطئ مع رأس المال.



لحسن الحظ فإن التطور التكنولوجي الذي استفادت منه وسائل الإعلام قد مكّن بعض تلك الوسائل من وضع فضائح الرسميين والمتنفذين برسم الرأي العام، وأصبح لا بد للمتنفذين والرسميين من الحذر أكثر في تنفيذ الصفقات، دون أن يؤدي ذلك إلى أي محاسبة أو تغيير أو إصلاح.



ج- من يظن أن في لبنان أقيمت الدولة بالمعنى القانوني يكون مخطئاً

منذ فجر التاريخ ولمن يحلو له التكلم عن الفينيقين لم يكن هناك كيان موحد بل مجموعة من المدن-الممالك المتنافسة أو المتهادنة، ثم تحولت إقطاعيات، في عهد ما يسمى الإمارات، ثم تحولت طوائف منذ حوادث القرن التاسع عشر، ثم جرى منح الشخصية القانونية لمختلف الطوائف والمذاهب مع قيام ما سمي بدولة لبنان الكبير، ثم جرى إعطاء الصفة الرسمية لزعماء الميليشيات التي اشتركت في حوادث القرن العشرين، بعد مؤتمرات الحوار التي أعقبت ذلك، وكرّس ذلك رسمياً بعد اتفاق الطائف.



د- عدم التزام السلطات بالدستور

النظام الطائفي طبق مؤقتاً وذكرت الصفة المؤقتة في الدستور بالتفصيل الممل، ورغم ذلك استمرّ المؤقت بل ازداد تجذّراً إلى أن انفجرت أحداث السبعينات من القرن الماضي، وأتى اتفاق الطائف عام 1989، ليؤكد من جديد على ضرورة وضع حد للنظام الطائفي، ورغم ذلك، لم تتخذ السلطات التي تولت شأن البلد أي خطوة بهذا الشأن.

لقد طرح اتفاق الطائف "مرحلة انتقالية" ، كما فعل دستور عام 1926 من قبل، وذلك لتصفية تركة الحرب، وتسوية الوضعية القانونية للكيان اللبناني عن طريق منحه نظاما مدنيا يضع حدا للنظام الطائفي، ويقيم المواطنية على قاعدة العدالة والمساواة لكل أفراد الشعب، مما يؤدي إلى الحد من تأثير الطوائف ويجنب لبنان محن جديدة، كما طرح أسس محاسبة ومساءلة الحكام، مما يكرس شخصية الدولة قانونياً، ويرسم حدود السلطة ومسؤولية الحكام، ويرسم الحدود بين العام والخاص، مما يؤدي إلى محاربة الفساد واختلاس المال العام، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، ولا زال الممسكون بالسلطة يتخفون خلف ذرائع مختلفة لإبقاء البلد ساحة للفساد والفوضى وملعبا يدخلون فيه الأهداف ضد بعضهم البعض، غير متورعين عن التحالف والتواطئ مع جهات إقليمية ودولية لحماية مصالحهم.

ان النظام الطائفي الذي تم تكريسه في النصوص وفي التطبيق، والأحداث التي تندلع باستمرار، والتي تبدأ سياسية إصلاحية وتتحول إلى صراعات طائفية، تعطل آلية الحكم الديموقراطي، فالشعب من جهته لم يستطع التغلب حتى اليوم على عقدة الخوف على أمنه من الحروب الأهلية، فيفضل المواطنون السكوت على الفساد، والظلم على المطالبة بالإصلاح، لإمكانية استغلال الوضع فورا وإعطائه صبغة طائفية يستطيع منها المنتفعون من النظام الطائفي-الرأسمالي القائم من افتعال الأحداث التي تمكنهم من الإستمرار في غيّهم، لذلك يتسم موقف الشعب اللبناني بأكثريته الصامتة بالسلبية والصبر القاتل لروح المواطنية، حيث تجد اللبناني محباً لوطنه كافراً بدولته مستخفاً بها.



أما الزعماء المنتفعون من جهتهم، وفي تمسكهم بمكاسبهم، فإنهم يتمسكون بالوضع القائم، (statuquo ante)، وما دام قائما، فهم يحاولون جميعا الظهور بمظهر شرفاء مكة، بأنهم مسالمون ولا يريدون الإنزلاق بالبلد إلى صراعات داخلية، ولكن في الوقت ذاته لم يطالب أحدهم بالإصلاح، وإذا طالب فيكون ذلك صوريا، بينما أغلبهم ينبرون إلى التحريض الطائفي والمذهبي، والمضحك المبكي أنهم في تحريضهم ضد الآخر يلبسون ذلك الآخر لباس الفتنة والمذهبية أو الطائفية مهما كان تصرفه حتى لو كان علمانياً، المهم أن يكون مهدداً لمصالحهم الشخصية، فإذا وفقهم الله وكان الآخر من مذهب أو طائفة غير طائفتهم، فلا صعوبة بالتحريض، أما إذا كان من نفس مذهبهم أو طائفتهم، فهنا المشكلة، حينها يلبسونه ثوب الجبن، أو خيانة الطائفة أو الإرتداد أو حتى الكفر، أو التواطئ مع الآخر الذي يصورنه في أوقات الغضب بالمتعامل مع الخارج، وفي أوقات الرحمة بالشريك بالوطن، والعجيب أنهم كلهم لهم جهة إقليمية أو دولية يتعاونون معها.

ه- التشابك مع المصالح الخارجية

إن التعاون مع الخارج، إقليمي أو دولي ليس عيبا أو خطأ بحد ذاته لو كان ذلك يحصل لخدمة الوطن أو الدفاع عنه، إنما الجريمة هي التواطئ أحياناً مع أعداء الوطن لتمرير مصالح شخصية في الدولة،

إن أكثر الأشخاص انتهاكا لسيادة الدولة هم أولئك الذين يرفعون شعار سيادتها زوراً وبهتاناً، بينما سكتوا طيلة 22 سنة على احتلال غاشم لأكثر من نصف البلد، حيث لم يسلم من إجرامه لا حجراً ولا بشراً، ثم جاؤوا ينادون بالسيادة بعد ذلك، ومعلوم أن مفهوم السيادة يرفع في وجه محتل وليس في وجه مواطن.

إن هذه الوضعية التي كانت سبباً رئيسياً من أسباب حرب السبعينات، لا تزال تصح اليوم، مع فارق أن بعض الإقطاعيين القدماء الذي لم يحالفهم الحظ للإستمرار ، قد حل محلهم زعماء ميليشيات أو أصحاب شركات كبرى وبيوت مال.



ومع بدء المرحلة الإنتقالية الجديدة أي مطلع التسعينات، واجهت الدولة تهديداً أكبر بكثير من السابق تمثل بتحويل قطاعاتها إلى شركات إستثمارية خاصة، تركب موجة العولمة وتسير حسب إملاءات الشركات العالمية الكبرى التي تسعى إلى إستنزاف ثروات الشعوب المستضعفة، تحت شعار فتح الحدود وحرية التجارة على المستوى الإقتصادي، وشعارات الديمقراطية والإصلاح ومحاربة الإرهاب على المستوى السياسي والعسكري، كما تمت استباحة أرضه للبيع والشراء غير المنظم من قبل أجانب متموّلين. بينما غيّبت الإصلاحات الرئيسية التي يكرسها القانون والمتمثلة بـ: اللامركزية الإدارية، وبنظام انتخاب نسبي غير طائفي، وبإلغاء الطائفية السياسية، وبتكريس حقوق الإنسان والمواطن بما فيها إنصاف المرأة وإعطاؤها حقوقها كاملة كما تنص عليه الاتفاقية الدولية لمنع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وحماية المال العام بالقضاء على الفساد المستشري، ومحاسبة المسؤوليين، ومراقبة دستورية القوانين، ومحاربة الفساد، ووضع حد لإنتهاك سيادة الدولة سواء من خلال التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونها الداخلية، أو من خلال الإعتداء عليها.



خلاصة

إن في لبنان دولة لم تُبنَ بعد بالمعنى الدستوري للكلمة، ونظام لم ترسم خطوطه بوضوح، ووطن لا يزال يعيش في مرحلة انتقالية منذ انشاء الدولة، فيه كثير من الزعماء والميليشيات والتدخلات ورجال الدين، وكثير من التحاصص والفساد والتسلط ونهب المال العام والفوضى، وقليل من حسن التدبير والعدالة والمساواة والإنصاف والإكتفاء الذاتي والسيادة.

تعريف بالمؤتمر
الفصل الأول: الجلسة الافتتاحية
الفقرة الأولى: كلمة العميد د. كميل حبيب
الفقرة الثانية : كلمة رئيس المجلس الدستوري د. عصام سليمان
الفقرة الثالثة: كلمة رئيس الجامعة اللبنانية د. عدنان السيد حسين
الفصل الثاني: الجلسة الاولى: طبيعة النظام السياسي اللبناني
الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة معالي الوزير د. سليم جريصاتي
الفقرة الثانية: مداخلة د. أحلام بيضون
الفقرة الثالثة: مداخلة د. سيمون سلامة
الفقرة الرابعة: مداخلة د. صالح طليس
الفقرة الخامسة: مداخلة د. خالد الخير
الفصل الثالث:وقائع الجلسة الثانية: رئيس الجمهورية في النظام اللبناني
الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة د. زهير شكر
الفقرة الثانية: مداخلة المحامي ميشال قليموس
الفقرة الثالثة: مداخلة د.ماري تريز عقل
الفقرة الرابعة: مداخلة د. طوني عطاالله
الفقرة الخامسة: مداخلة د. موسى ابراهيم
الفقرة السادسة: مداخلة د. حسان الأشمر
الفصل الرابع:وقائع الجلسة الثالثة: رئيس الجمهورية ومأزق الحياة السياسية
الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة معالي د. خالد قباني
الفقرة الثانية: مداخلة د. عقل عقل
الفقرة الثالثة: مداخلة د. محمد عيسى عبدالله
الفقرة الرابعة: مداخلة د. البير رحمه
الفقرة الخامسة: مداخلة د. وسيم منصوري
الفصل الخامس: وقائع الجلسة الرابعة: رئيس الجمهورية واحتمالات الخروج من المأزق
الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة النائب غسان مخيبر
الفقرة الثانية: مداخلة د. اوجيني تنوري
الفقرة الثالثة: مداخلة د. حسين عبيد
الفقرة الرابعة: مداخلة أ. محمد حيدر
الفقرة الخامسة: مداخلة د. جورج يزبك
الفصل السادس: مشاركات من خارج المؤتمر
الفقرة الأولى: مشاركة د. انطوان سعد
الفقرة الثانية: مشاركة د. جوزاف عيسى
الفصل السابع: خلاصة آراء المشاركين في المؤتمر
توصيات
للاتصال بالكليات
مجلة الجامعة اللبنانية
المشاريع الخارجية
شركاء
روابط مفيدة
المواصفات الفنية للتجهيزات واللوازم
بريد إلكتروني
المسؤولون عن المحتوى
مساعدة الكترونية
شروط التسجيل العامة
إنضموا الينا


جميع الحقوق محفوظة © 2024 | الجامعة اللبنانية